القائمة الرئيسية

الصفحات

منزلة الصبر في الإسلام وفضله وأنواعه

بسم الله الرحمن الرحيم



منزلة الصبر

منزلة الصبر في الإسلام عظيمة، (وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)، وهذه الدنيا لا تستقيم لإنسان على حال سعادة وشقاء، بل شأن العباد فيها تقلب وتبدل وتغير، ولا علاج أنجع لذلك من الصبر، مع ما له من فضل في الدنيا والآخرة.

ذلك بأمور شرعها في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله جل وعلا:  (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155 - 157].

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر

وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعا 

الأول : الأمر به في قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ) (البقرة : 153) وقوله : (واستعينوا بالصبر والصلاة )(البقرة : 45 )

الثاني : النهي عن ضده كقوله تعالى : (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم )(الأحقاف : 35) 

وقوله : (فلا تهنوا ولا تحزنوا )(آل عمران : 139) فإن الوهن من عدم الصبر 

الثالث : الثناء على أهله قال تعالى :( الصابرين والصادقين) ( آل عمران : 17 )

قال تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة :177) 

الرابع : إيجابه سبحانه محبته لهم قال تعالى:( والله يحب الصابرين )(آل عمران : 146)

 الخامس : إيجاب معيته لهم وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة 

كقوله : (واصبروا إن الله مع الصابرين )(الأنفال : 46 )

السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه قال تعالى: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )(النحل: 126) 

السابع : إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم قال تعالى : ؛(ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )(النحل : 96) 

الثامن : إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب كقوله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )(الزمر: 10) 

التاسع : إطلاق البشرى لأهل الصبر كقوله تعالى : (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) البقرة : 155

العاشر : ضمان النصر والمدد لهم قال تعالى : (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)(آل عمران : 125)

 ومنه قول النبي : (واعلم أن النصر مع الصبر)رواه الألباني في صحيح الجامع 

الحادي عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله تعالى :( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )(الشورى : 43) 

الثاني عشر : الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله تعالى : (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون )ا(لقصص : 80) 

وقوله : (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)(فصلت : 35 )

الثالث عشر : الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله تعالى لموسى :( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )(إبراهيم : 5)

الرابع عشر : الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله تعالى : (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )(الرعد : 23،24 )

الخامس عشر : أنه يورث صاحبه درجة الإمامة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه  الله  يقول : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى :( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجده : 24 )

السادس عشر : اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له 

وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره والجزع والتسخط والتشكي يزيد في المصيبة ويذهب الأجر 

و أخبرالنبي صلى الله عليه وسلم  أن الصبر خير كله فقال : (ما أعطي أحد عطاء خيرا   له وأوسع : من الصبر


وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (خير عيش أدركناه بالصبر )

وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( عجبا لأمر المؤمن ! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )(رواه مسلم)

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الحديث: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصائب، وأنفع شيء في العاجل والآجل، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته: 

أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعل عند العبد عارية، فإذا أخذه منه؛ فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد للعبد من أن يُخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، بل بلا ثوب، حافياً عارياً لكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد، وما خوله ونهايته؛ فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟ ففكرة العبد في مبدئه ومعاده من أعظم علاج المصائب والمحن.

وقال سليمان بن القاسم: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر, قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: كالماء المنهمر 

وقد جمع الله للصابرين ثلاثة أمور: لم يجمعها لغيرهم وهى: الصلاة منه عليهم, ورحمته لهم, وهدايته إياهم, قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

والصبر سبب لدخول الجنة وسبب النجاة من النار، فالجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فكيف تدخل الجنة بدون صبر على المكاره؟، وكيف تقي نفسك النار بدون صبر عن الشهوات؟، 
وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على المعنى اللطيف في هذا الحديث، حفت الجنة بالمكاره؛ علمنا أنه لا طريق للجنة إلا عبر المكاره، لأنه قال حُفّت، من جميع الجهات، فإذا ما ركبت المكاره لا تدخل الجنة، والمكاره هي ما تكرهه النفس من المجاهدة اللازمة لأداء العبادات (صلاة الفجر، الوضوء في البرد، الصبر على المصائب، الجهاد .... )،فلا يمكن دخول الجنة إلا باختراق المكاره، ولا يمكن اختراقها إلا بالصبر، وأما النار فإنها حفت بالشهوات، ولا يمكن منع النفس من الدخول في النار إلا إذا صبر عن المعاصي وامتنع عن المعصية وحبس نفسه عن ذلك فهذه إذاً فضائل هذا الخلق الكريم.

فالصبر : حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش. 


وللصبر ثلاثة أنواع : صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
فالأول : أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى : (واصبر وما صبرك إلا بالله )النحل : 127 يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.
والثاني : الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض. 
والثالث : الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها. 
فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين.

قال الجنيد : المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن وهجران الخلق في جنب الله شديد والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد. 
وسئل عن الصبر فقال : تجرع المرارة من غير تعبس
 
وقيل : الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. 
وقيل : هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى.
وقيل : تعويد النفس الهجوم على المكاره .
وقال الخواص : هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة ..
وقال يحيى بن معاذ : صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا ! كيف يصبرون وأنشد : 
الصبر يجمل في المواطن كلها**إلا عليك فإنه لا يجمل 
 وقيل : الصبر مثل اسمه مر مذاقته **  لكن عواقبه أحلى من العسل 

وقيل : مراتب الصابرين خمسة : صابر ومصطبر ومتصبر وصبور وصبار
 فالصابر : أعمها 
والمصطبر : المكتسب الصبر المليء به .
والمتصبر : المتكلف حامل نفسه عليه .
والصبور : العظيم الصبر الذي صبره أشد من صبر غيره .
والصبار : الكثير الصبر فهذا في القدر والكم والذي قبله في الوصف والكيف .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية   : الصبر على أداء الطاعات : أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل فإن مصلحة فعل الطاعة : أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة : أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية .


المصدر الرئيسي للبحث كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات