القائمة الرئيسية

الصفحات

درجات الصبر من كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم



درجات الصبر 

 ثلاث درجات 

الدرجة الأولى : الصبر عن المعصية

بمطالعة الوعيد ، إبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام وأحسن منها ، الصبر عن المعصية حياء 


ذكر للصبر عن المعصية سببين وفائدتين 

أما السببان : فالخوف من لحوق الوعيد المترتب عليها 

والثاني : الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه وأن يبارز بالعظائم 

وأما الفائدتان : فالابقاء على الإيمان والحذر من الحرام فأما مطالعة الوعيد والخوف منه، فيبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمونه 

وأما الحياء  فيبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات وأحسن من ذلك ، أن يكون الباعث عليه وازع الحب فيترك معصيته محبة له كحال الصهيبيين 

وأما الفائدتان : فالإبقاء على الإيمان : يبعث على ترك المعصية لأنها لا بد أن تنققصه  أو تذهب رونقه وبهجته أو تطفىء نوره أو تضعف قوته أو تنقص ثمرته هذا أمر ضروري بين المعصية وبين الإيمان يعلم بالوجود والخبر والعقل 

عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد )

صحيح البخاري

وأما الحذر عن الحرام : فهو الصبر عن كثير من المباح حذرا من أن يسوقه إلى الحرام ولما كان الحياء من شيم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية : كان صاحبه أحسن حالا من أهل الخوف ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف 

فمن وازعه الخوف ، قلبه حاضر مع العقوبة ومن وازعه الحياء : قلبه حاضر مع الله والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها 

والمستحي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها 


الدرجة الثانية : الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دواما وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما هذا يدل على أن عنده ، أن فعل الطاعة آكد من ترك المعصية فيكون الصبر عليها فوق الصبر عن ترك المعصية في الدرجة وهذا هو الصواب كما تقدم فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة 

نهي عنه حماية وصيانة لجانب الأمر فجانب الأمر أقوى وآكد وهو بمنزلة الصحة والحياة والنهي بمنزلة الحمية التي تراد لحفظ الصحة وأسباب الحياة

 وذكر الشيخ : أن الصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء : دوام الطاعة والإخلاص فيها ووقوعها في مقتضى العلم وهو تحسينها علما فإن الطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة فإن العبد إن لم يحافظ عليها دواما عطلها وإن حافظ عليها دواما عرض لها آفتان : 

إحداهما : ترك الإخلاص فيها بأن يكون الباعث عليها غير وجه الله وإرادته والتقرب إليه فحفظها من هذه الآفة : برعاية الإخلاص

 الثانية : ألا تكون مطابقة للعلم بحيث لا تكون على اتباع السنة فحفظها من هذه الآفة : بتجريد المتابعة كما أن حفظها من تلك الآفة بتجريد القصد والإرادة فلذلك قال : بالمحافظة عليها دواما ورعايتها إخلاصا وتحسينها علما


الدرجة الثالثة : الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج وتهوين البلية بعد أيادي المنن وبذكر سوالف النعم 

هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء 

إحداها : ملاحظة حسن الجزاء وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل وإنما خاصة العقل : تلمح العواقب ومطالعة الغايات 

وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة فارق الراحة وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإن قدر التعب تكون الراحة 

على قدر أهل العزم تأتي العزائم  

 وتأتي على قدر الكريم الكرائم 

ويكبر في عين الصغير صغيرها  

 وتصغر في عين العظيم العظائم 

والقصد : أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك والثاني : انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل وبه وبغيره يفهم معنى اسمه اللطيف

والثالث : تهوين البلية بأمرين أحدهما : أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده فإذا عجز عن عدها وأيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر 

الثاني : تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن : يتعلق بالحال وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج : يتعلق بالمستقبل وأحدهما في الدنيا والثاني يوم الجزاء 

ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت فقال لها بعض من معها : أتضحكين وقد انقطعت إصبعك فقالت : أخاطبك على قدر عقلك حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا المقام من ملاحظة المبتلي ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء

وتلذذها بالشكر له والرضى عنه ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر كما قيل : 

لئن ساءني أن نلتني بمساءة  

 فقد سرني أني خطرت ببالكا

وأضعف الصبر : الصبر لله وهو صبر العامة وفوقه :

الصبر بالله وهو صبر المريدين وفوقه : الصبر على الله وهو صبر السالكين 

معنى كلامه : أن صبر العامة لله أي رجاء ثوابه وخوف عقابه وصبر المريدين : بالله أي بقوة الله ومعونته فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوة لهم عليه بل حالهم التحقق ب لا حول ولا قوة إلا بالله علما ومعرفة وحالا 

وفوقهما : الصبر على الله أي على أحكامه إذ صاحبه يشهد المتصرف فيه فهو يصبر على أحكامه الجارية عليه جالبة عليه ما جلبت من محبوب ومكروه فهذه درجة صبر السالكين وهؤلاء الثلاثة عنده من العوام إذ هو في مقام الصبر وقد ذكر : أنه للعامة وأنه من أضعف منازلهم 


والصواب : أن الصبر لله فوق الصبر بالله وأعلى درجة منه وأجل فإن الصبر لله متعلق بإلهيته 

والصبر به : متعلق بربوبيته وما تعلق بإلهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته

ولأن الصبر له عبادة والصبر به استعانة والعبادة غاية والاستعانة وسيلة والغاية مرادة لنفسها والوسيلة مرادة لغيرها 

ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به 

وأما الصبر له : فمنزلة الرسل والأنبياء والصديقين وأصحاب مشهد إياك نعبد وإياك نستعين

ولأن الصبر له  صبر فيما هو حق له محبوب له مرضى له  وقد يكون فيما هو مسخوط له وقد يكون في مكروه أو مباح فأين هذا من هذا 

وأن الصبر على طاعته والصبر عن معصيته : أكمل من الصبر على أقداره كما 

فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة 

والصبر على أحكامه الكونية : صبر ضرورة وبينهما من البون ما قد عرفت 

وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم  أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف 

فبهذا نعلم أن الصبر لله أكمل من الصبر بالله والصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله  فلهذا قال : وأضعف الصبر : الصبر لله 

قيل المراتب أربعة 

إحداها مرتبة الكمال وهي مرتبة أولي العزائم وهي الصبر بالله ولله

فيكون في صبره مبتغيا وجه الله صابرا به متبرئا من حوله وقوته فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها 

الثانية : أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا فهو أخس المراتب وأردأ الخلق وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان 

الثالثة : مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل على حوله وقوته متبرىء من حوله هو وقوته ولكن صبره ليس لله إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له وربما كانت عاقبته شر العواقب 

وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم وهم من جنس الملوك الظلمة فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر والمؤمن والكافر 

الرابع : من فيه صبر لله لكنه ضعيف 

النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه فهذا له عاقبة حميدة ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه لضعف نصيبه من إياك نعبد وإياك نستعين فنصيبه من الله  أقوى من نصيبه بالله فهذا حال المؤمن الضعيف

وصابر بالله لا لله : حال الفاجر القوي وصابر لله وبالله : حال المؤمن القوي والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف 

فصابر لله وبالله عزيز حميد ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول ومن هو بالله لا لله قادر مذموم ومن هو لله لا بالله عاجز محمود 


والحمد لله رب العالمين


المصدر الرئيسي كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله بتصرف بسيط

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات