بسم الله الرحمن الرحيم
العبادة، وأنواعها، وأركانها
المطلب الأول: معنى العبادة في اللغة والاصطلاح
العبادة لغة:
العبادة في اللغة: الذل والخضوع. يقال: عبده: ذلَّله. وعبد الطريق، وعبد البعير.
ويقال: عبد الله عبادة، وعبودية: انقاد له، وخضع، وذل١.
يقول الشاعر طرفة بن العبد في معقلته المشهورة، يصف ناقته:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد٢
ومور معبد: أي تراب ممهد مذلل٣.
العبادة اصطلاحا:
والعبادة في الاصطلاح: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة٤.
وهي تتضمن غاية الذل الله تعالى، بغاية المحبة له عز وجل؛ فمن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن له عابد؛ كما قد يحب ولده وصديقه٥.
فالعبادة -إذًا- تتضمن غاية الحب، مع غاية الذل، كذا عرفها العلامة ابن القيم بقوله:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده، هما قطبان٦
فهي في مفهومها العام تعني: "التذلل لله محبة وتعظيما، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه"٧.
والله عز وجل أحب إلى عبده المؤمن من كل شيء، وأعظم عنده من كل شيء.
المطلب الثاني: مفهوم العبودية الشامل في ضوء النصوص الشرعية
سبق أن ذكرنا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للعبادة، بأنها: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والعمال الباطنة والظاهرة".
فالعبادة على هذا لا تقتصر على أركان الإسلام فحسب؛ من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج. بل إن الإسلام أسبغ على أعمال الإنسان كلها صفة العبادة، إذا تحقق فيها شرطا قبول العمل، وهما٨:
أولا: الإخلاص
بأن يكون العمل خالصا لوجه الله الكريم، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: من الآية٥] .
فينوي العبد أن يكون عمله، وقوله: وإعطاؤه، ومنعه، وحبه، وبغضه لله وحده، لا شريك له؛ إذا الأعمال لا تقوم إلا بالنيات، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إعمال بالنيات"٩؛
فالنية تتحكم في العمل، وتقلبه إلى عبادة.
ثانيا: المتابعة
بأن يكون العمل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه القويم، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: من الآية٧] . فالأعمال لا اعتبار لها إلا إذا كانت على الوجه الذي رسمه الشرع.
روت أم المؤمنين عاشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"١٠.
وكل عمل بلا متابعة، فإنه لا يزيد عامله إلا بعدا من الله؛ فإن الله عز وجل إنما يعبد بأمره، لا بالأهواء، ولا الآراء.
والمسلك الحسن ليس في إخلاص العمل لله عز وجل فحسب، ولا في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل في مجموعهما معا، فإن الله عز وجل ذكر العمل الصالح، فقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: من الآية ١١٠] ، والعمل الصالح هو الخالص الصواب، فإذا جمع العمل هذين الشرطين، كان عبادة.
والعبادة تتعدد وتتنوع لتشمل حياة الإنسان المسلم كلها، وفي هذه الأمثلة بيان لذلك:
١- الله عز وجل لم يقصر وصف الصلاح على العبادات المخصوصة، بل جعله شاملا لأعمال أخرى يقول عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: ١٢٠-١٢١] .
٢- عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول اللهّ! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال صلى الله عليه وسلم: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليها فيها وزر؛ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر" ١١. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن باب العبادة واسع، يدخل فيه التسبيح، والتحميد، والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى إتيان الرجل امرأته جعل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة؛ لأن في الكف عن المعصية ابتغاء مرضاة الله عز وجل أجر وعبادة، إذ بإتيان الرجل امرأته يعف نفسه عن الحرام، ويعف أهله أيضا. فإن انضم إلى ذلك نية إنجاب الذرية الطيبة، وتربيتها التربية الحسنة، وحسن رعايتهم، ازدادت دارة العبادة بازدياد دائرة النية الصالحة.
٣- عن ابن عباس -رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل، قال: قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" ١٢. فبين صلى الله عليه وسلم أن النية الطيبة وحدها، ولو لم يصاحبها عمل، يؤجر الإنسان عليها. فالنية دائما لها أجرها.
وهكذا تتسع دائرة العبادة بقدر امتداد النية المقرونة بالعمل، حتى تشمل حياة المسلم كلها، في يقظته ومنامة، وفي صمته وكلامه، وفي سعيه لمعاشه ومعاده، ما دام العمل موافقا لشرع الله وما دامت نيته ابتغاء وجه الله عز وجل.
المطلب الثالث: أنواع العبادة
ذكرنا في المطلب السابق أن دائرة العبادة تتسع بقدر امتداد النية لتشمل حياة الإنسان كلها، ما دام العمل موافقا لشرع الله سبحانه وتعالى، وما دامت نية العامل: ابتغاء وجه الله عز وجل. فأعمال الإنسان كلها عبادة إذا جمعت شرطي قبول العمل.
وهذه الأعمال التي حملت اسم "العبادة" يمكن تصنيفها ضمن أنواع متعددة:
أولا: عبادات اعتقادية:
وهي اعتقاد ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه؛ من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وما اشبه ذلك١٣
ودليل هذا النوع، قول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: ١٧٧] .
ثانيا: عبادات قلبية:
وهي أعمال القلوب؛ كمحبة الله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، ورجائه، وإخلاص الوجه له، والصبر على أوامره ونواهيه وأقداره، والرضا به وله وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطمأنينة به، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله عز وجل١٤.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: ٢٣] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه} [الزمر: ٥٤] ، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: ٢٠٠] .
ثالثا: عبادات قولية:
ومن أجلها: النطق بكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، والدعاء إلى الله والذب عنه، والقيام بذكره عز وجل، وتبليغ دينه، وقراءة القرآن، ونحو ذلك١٥.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: ١٢٥] ، وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: ٩٨] ، وقوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: ٦٠].
رابعا: عبادات بدنية:
وتشمل اعمال الجوارح؛ من صلاة، وجهاد، وحج، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك١٦.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: ٧٧] ، وقوله جل جلاله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بالحج: ٢٩] ، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: ٩] .
خامسا: عبادات مالية:
وتشمل إخراج الزكاة من المال، امتثالا لأمر الله، والوفاء بالنذر، والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: ١١٠] ، وقوله سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: ٤١] ، وقول الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
[الإنسان: ٧] .
إذًا العبادة تشمل جميع مجالات الحياة، بل تشمل الحياة بأسرها؛ فالحياة، والمحيا، والممات لله رب العالمين لا شريك له، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: ١٦٢-١٦٣] .
المطلب الرابع: أركان العبادة وأصولها
تقوم العبادة على أركان، باجتماعها يحصل كمال العبودية لله عز وجل١٧.
وهذه الأركان هي: المحبة، والرجاء، والخوف،
التي يجب اجتماعها، ولا يجوز إهمال واحد منها، كما قال العلماء رحمهم الله: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد١٨.
ويمكن بيان هذه الأركان في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: مع الركن الأول: محبة الله عز وجل:
المحبة أصل دين الإسلام، وهي نعمة لا يدركها إلا من تفيأ ظلالها، ولذة لا يعرف حلاوتها إلا من تذوقها.
١- المراد بها: يراد بها محبة المعبود جل جلاله، المتضمنة تقديم مراده عز وجل على كل شيء.
٢- مقاماتها: مقامات العبادة ثلاثة؛ التكميل والتفريغ، ودفع الضد.
وقد جمعها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" ١٩.
فـ "ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان" تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها.
فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما٢٠.
وقد دل على هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ٢١.
وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا الله.
ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار٢٢؛ لأن من محبة الله بغض ما يبغضه، وأعظم ذلك الكفر.
٣- علاماتها: للمحبة علامتان، هما: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله عز وجل.
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمن كان محبا لله، لزم أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل٢٣.
وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأمته: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: ٣١] ؛ فليست المحبة مجرد دعوى باللسان؛ بل لا بد أن يصاحبها الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على هداه.
الجهاد في سبيل الله عز وجل: فمن كان محبا لله، لزمه أن يجاهد في سبيله؛ "لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"٢٤. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: ٢٤] .
فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد٢٥.
وحقيقة محبة الله عز وجل لا تتم إلا بموالاته عز وجل؛ أي بموافقته فيما يحب ويكره؛ فيحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله عز وجل.
الوقفة الثانية: مع الركن الثاني: الرجاء:
١- ارتباط الرجاء بالمحبة: على حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راج بالضرورة؛ لأن محبته لله عز وجل تحمله على أن يرجو ما عنده سبحانه وتعالى٢٦.
٢- المراد بالرجاء: أن يرجو العبد ما عند مولاه عز وجل من الأجر، والثواب، والرحمة، والمغفرة؛ فالعابد والمطيع يرجو الأجر والثواب والقبول، والتائب يرجو الرحمة ومغفرة الذنوب.
وهذا الرجاء ينبغي أن يكون بلا بأس من روح الله، ولا قنوط من رحمته عز وجل؛ لأن الله تعالى ذم الأمرين، فقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧] ، وقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّون} [الحجر: ٥٦] .
٣- المطلوب فيه: المطلوب في الرجاء كماله وغايته؛ فيرتقي العبد في الرجاء صعدا؛ من رجاء يبعث على الاجتهاد في أداء العبادة طمعا فيما يؤمله من ثواب، إلى رجاء يقدم فيه لزوم الأحكام الدينية على ما تستلذه النفس وتميل إليه، إلى رجاء لقاء الخالق سبحانه وتعالى٢٧ كما قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠] ، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: ٥] .
٤- من أسباب حصول الرجاء: يحصل الرجاء بأمور، منها٢٨.
أ- شهود كرم الله تعالى وإنعامه، وإحسانه إلى عبادة.
ب- صدق الرغبة فيما عند الله عز وجل من الثواب والنعيم.
ج- التسلح بصالح العمل، والمسابقة في الخيرات.
٥- من الأدلة على الرجاء:
تقدم آنفا دليلان، هما: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠] ، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: ٥] .
وثمة أدلة أخرى، منها:
أ- قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢١٨] .
ب- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي" ٢٩.
ج- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" ٣٠.
فالله عز وجل عند ظن عبده. وعلى العبد أن يحسن الظن بربه كي لا يصيبه القنوط من رحمة الله، ولا اليأس من روحه
عز وجل؛ فيبقى متطلعا لما عند الله من الثواب العظيم، راغبا في نيل ما ادخره لعباده المؤمنين ممن النعيم المقيم.
الوقفة الثالثة: مع الركن الثالث:الخوف من الله عز وجل
١- ارتباط الخوف بالرجاء: الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف؛ فكل راج خائف، وكل خائف راج؛ فكل راج خائف من فوات مرجوه، وكل خائف يرجو عفو ربه ومغفرته، والخوف بلا رجاء يعتبر يأسا من روح الله وقنوطا من رحمته٣١.
٢- المراد بالخوف: أن يخاف العبد مولاه عز وجل أن يصيبه بعقاب عاجل، أو آجل، فيصيبه في الدنيا بما يشاء -سبحانه- من مصيبة، أو مرض، أو قتل، أو نحو ذلك بقدرته ومشيئته.
وهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا؛ لأن هذا من لوازم الإلهية؛ فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف، فهو مشرك٣٢؛ لأن الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا الله.
ويتبع هذا الخوف: الخوف مما توعد الله به العصاة في الآخرة، من النكال والعذاب يقول تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد} [ابراهيم: من الآية١٤] .
وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان؛ وإنما يكون محمودا إذا لم يوقع في القنوط من رحمة الله، أو اليأس من روحه سبحانه وتعالى٣٣.
والمطلوب في هذا الخوف: ما يحجز العبد عن المعاصي، ويبعده عن مخالفة أوامر الله.
يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله٣٤.
٣- سبب نقص الخوف من الله في نفس العبد: إذا نقص الخوف من الله عز وجل في نفس العبد؛ فذلك لنقص معرفته بربه عز وجل؛ فإن أعرف الناس بالله أخشاهم له سبحانه. وكلما ازدادت معرفة العبد بربه، كلما ازداد له خشية. يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: من الآية٢٨] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" ٣٥، ويقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" ٣٦، ويقول: "فوالله إني أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية"٣٧؛ فهو صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله عز وجل، وأشدنا خشية له؛ فكلما ازدادت المعرفة بالله، ازدادت الخشية له عز وجل، وكذلك العكس؛ كلما نقصت المعرفة بالله، ازدادت الخشية له عز وجل، وكذلك العكس؛ كلما نقصت المعرفة بالله، قل الخوف منه٣٨.
٤- حكم الخوف من الله عز وجل: الخوف من الله عز وجل من أجل منازل الطريق، وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل أحد٣٩.
٥- من الأدلة على هذا الركن:
أ- آيات يأمر الله بها عباده بالخوف منه وخشيته عز وجل. يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٧٥] .
ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: من الآية٤٤] ؛ فأمر جل جلاله بالخوف منه، وجعل ذلك شرطا في تحقيق الإيمان
ب- آيات يمدح الله بها عباده ويثني عليهم بسبب عملهم بهذا الركن.
يقول الله عز وجل مثنيا على عباده المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون} [المؤمنون: ٥٧] ، إلى أن قال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [المؤمنون: ٦١] . ومدح الأنبياء عليهم السلام بهذه العبادة؛ فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: من الآية٩٠] . ومدح ملائكته بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: ٥٠] .
ج- آيات يخبر فيها عز وجل عن جزاء من عبده بهذا الركن، يقول الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن: ٤٦] ، ويقول سبحانه: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [ابراهيم: ١٤] .
عبادة الله عز وجل بهذه الأركان مجتمعة:
تقدم أن أهل السنة والجماعة يعبدون الله عز وجل بأركان العبادة الثلاثة مجتمعة، ولا يلغون أي ركن منها٤٠. وتقدم أنهم يوازنون بينها، بيحث لا يطغى جانب منها على الآخر٤١؛ فكما أن المسلم يعبد ربه عز وجل حبا له، وطمعا في جنته، ورجاء لثوابه؛ فإنه كذلك يعبده عز وجل خشية له، وحذرا من ناره، وخوفا من عقابه.
وما أجمل كلمات العلامة ابن القيم رحمه الله، التي يخبر فيها عن اجتماع هذه الأركان القلبية، ويتحدث عن منزلة كل واحد منها، فيقول: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر. فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطائر جيد الطيران. ومتى قطع الرأس مات الطائر. ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائد وكاسر" إلى أن قال: "أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب؛ فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه"٤٢.
المصارد والمراجع
١ انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص٤٠٦. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص٥٧٩.
٢ انظر شرح المعلقات العشر للزوزني ص٩٧.
٣ انظر أساس البلاغة للزمخشري ص٦٠٧.
٤ انظر العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص٢٣.
٥ انظر المصدر نفسه ص٣٣-٣٤.
٦ انظر النونية لابن القيم -بشر الهراس- ١/ ٩٥.
٧ المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين ٢/ ٢٥.
٨ انظرهما في كتاب: تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص٨٨-٨٩.
٩ صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".
١٠ صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور، فالصلح مردود. وصحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.
١١ صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
١٢ صحيح البخاري، كتاب الرقاق باب من هم بحسنة أو بسيئة. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتب.
١٣ انظر تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص١١٧
١٤ انظر المصدر نفسه.
١٥ انظر المصدر نفسه.
١٦ انظر المصدر نفسه ص١١٨.
١٧انظر معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي ص١٣٦.١٨
١٨انظر: العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص١٦١-١٦٢. وتوحيد الألوهية لمحمد الحمد ص٣٧.
١٩ تقدم تخريجه في ص٧٥ من هذا التاب.
٢٠ العبودية لابن تيمية ص١٥٩-١٦٠. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان ٢/ ٣٦٩.
٢١صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٢٢ العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص١٦٠. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان ٢/ ٣٦٩.
٢٣ المصدر نفسه ص١٢٦-١٢٧.
٢٤ العبودية لابن تيمية ص١٢٧. وانظر الدين
الخالص لصديق حسن خان ٢/ ٣٦١.
٢٥ العبودية لابن تيمية ص١٢٧.
٢٦ انظر مدارج السالكين لابن القيم ٢/ ٤٤.
٢٧ انظر المصدر نفسه ٢/ ٥٤-٥٦.٣
٢٨ انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص١٤٠.
٢٩ صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} .
وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى.
٣٠ صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت.
٣١ انظر مدارج الساكلين لابن القيم ٢/ ٥٣.
٣٢ انظ تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص٤٨٤.
٣٣ انظر المرجع نفسه ص٤٨٦.
٣٤ مدارج السالكين لابن القيم ١/ ٥٥.
٣٥ صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب صحة من طلع عليه الفجر وهو جنب.
٣٦ صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله".
٣٧ صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع.
٣٨لاحظ: أن الخشية أخص من الخوف؛ فإن خشية العلماء لله، هي خوف مقرون بمعرفة. وانظر مدارج السالكين لابن القيم ١/ ٥٤٩.
٣٩انظر مدارج السالكين لابن القيم ١/ ٥٤٨.
٤٠ انظر ص٩٧ من هذا الكتاب.
٤١ انظر ص٤١ من هذا الكتاب وانظر إيثار الحق على الخلق لابن المرتضى ص٣٩١-٣٩٢.
٤٢ انظر مدارج السالكين لابن القيم ١/ ٥٥٤.
والحمد لله رب العالمين
تعليقات
إرسال تعليق