بسم الله الرحمن الرحيم
(ذكر تلبيس إبليس عَلَى جاحدي النبوات)
قد لبس إبليس عَلَى البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق مَا يصل من الإله وَقَد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم عَلَى مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط
وقد حكى أَبُو مُحَمَّد النوبختي فِي كتاب الآراء والديانات أن قوما من الهند من البراهمة أثبتوا الخالق والرسل والجنة والنار وزعموا أن رسولهم ملك أتاهم فِي صورة البشر من غير كتاب لَهُ أربعة أيد واثنتا عشر رأسا من ذلك رأس إنسان ورأس أسد ورأس فرس ورأس فيل ورأس خنزير وغير ذلك من رؤوس الحيوانات وأنه أمرهم بتعظيم النار ونهاهم عَن القتل والذبائح إلا مَا كان للنار ونهاهم عَن الكذب وشرب الخمر وأباح لهم الزنا وأمرهم أن يعبدو البقر ومن ارتد منهم ثم رجع حلقوا رأسه ولحيته وحاجبيه وأشفار عينيه ثم يذهب فيسجد للبقر فِي هذيانات يضيع الزمان بذكرها.
قَالَ ابن الجوزي وَقَدْ ألقى إبليس إِلَى البراهمة ست شبهات.
الشبهة الأولى: استبعاد اطلاع بعضهم عَلَى مَا خفي عَنْ بعض فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} والمعنى وَكَيْفَ أطلع عَلَى مَا خفي عنكم وجواب هذه الشبهة أنهم لو ناطقوا العقول لأجازت اختيار شخص بشخص لخصائص يعلو بِهَا جنسه فيصلح بتلك الخصائص لتلقف الوحي إذ ليس كل أحد يصلح لذلك
فلا يستبعد أن يخص الله تعالى شخصا من خلقه بالحكمة البالغة والدعاية إليه إصلاحا لمن يفسد فِي العالم بسوء الأخلاق والأفعال ومعلوم أن المخالفين لا يستنكرون أن يختص أقوام بالحكمة ليسكنوا فورات الطباع الشريرة بالموعظة فكيف ينكرون أمداد الباري سبحانه بعض الناس برسائل ومصالح ووصايا يصلح بِهَا العالم ويطيب أخلاقهم ويقيم بِهَا سياستهم وَقَدْ أشار عز وجل إِلَى ذلك فِي قوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} .
الشبهة الثانية: قالوا هلا أرسل ملكا فَإِن الملائكة إليه أقرب ومن الشك فيهم أبعد والآدميون يحبون الرياسة عَلَى جنسهم فيوقع هَذَا شكا وجواب هَذَا من ثَلاثَة أوجه
الأول أن فِي قوى الملائكة قلب الجبال والصخور فلا يمكن إظهار معجزة تدل عَلَى صدقهم لأن المعجزة مَا خرقت العادة وهذه العادة الملائكة وإنما المعجزات الظاهرة مَا ظهرت عَلَى يد بِشْر ضعيف ليكون دليلا عَلَى صدقه
والثاني أن الجنس إِلَى الجنس أميل فصح أن يرسل إليهم من جنسهم لئلا ينفروا وليعقلوا عنه ثم تخصيص ذلك الجنس بما عجز عنه دليل عَلَى صدقه
والثالث أنه ليس فِي قوى البشر رؤية الملك وإنما اللَّه تعالى يقوي الأنبياء بما يرزقهم من إدراك الملائكة ولهذا قَالَ اللَّه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي لينظروا إليه ويأنسوا به ويفهموا عنه ثم قَالَ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي لخلطنا عليهم مَا يخلطون عَلَى أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي.
الشبهة الثالثة: قالوا نرى مَا تدعيه الأنبياء من علم الغيب والمعجزات وما يلقى إليهم من الوحي يظهر جنسه عَلَى الكهنة والسحرة فلم يبق لنا دليل نفرق به بين الصحيح والفاسد والجواب أن نقول أن اللَّه تبارك وتعالى بين الحجج ثم بث الشبهة وكلف العقول الفرق فلا يقدر ساحر أن يحيي ميتا ولا أن يخرج من عصا حيا وأما الكاهن فقد يصيب ويخطىء بخلاف النبوة التي لا خطأ فيها بوجه.
الشبهة الرابعة: قالوا لا يخلوا مَا أن تجيء الأنبياء بما يوافق العقل أَوْ بما يخالفه فَإِن جاءوا بما يخالفه لم يقبل وإن جاءوا بما يوافقه فالعقل يغني عنه والجواب أن نقول قد ثبت أن كثيرا من الناس يعجزون عَنْ سياسات الدنيا حتى يحتاجون إِلَى متمم كالحكماء والسلاطين فكيف بأمور الإلهية والأخروية.
الشبهة الخامسة: قالوا قد جاءت الشرائع بأشياء ينفر منها العقل فكيف يجوز أن تكون صحيحة من ذلك إيلام الحيوان والجواب أن العقل ينكر إيلام الحيوان بعضه لبعض فأما إذا حكم الخالق بالإيلام لم يبق للعقل اعتراض وبيان ذلك أن العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عَلَيْهِ هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه ومتى اشتبه علينا أمر فِي فرع لم يجز أن نحكم عَلَى الأصل بالبطلان ثم قد ظهرت حكمة ذلك فانا نعلم أن الحيوان يفضل عَلَى الجماد ثم الناطق أفضل مما ليس بناطق بما أوتي من الفهم والفطنة والقوى النظرية والعملية وحاجة هَذَا الناطق إِلَى إبقاء فهمه ولا يقوم فِي إبقاء القوى مقام اللحم شيء ولا يستطرف تناول القوي الضعيف وما فيه فائدة عظيمة لما قلت فائدته وإنما خلق الحيوان البهيم للحيوان الكريم فلو لم يذبح لكثر وضاق به المرعى ومات فيتأذى الحيوان الكريم بجيفته فلم يكن لإيجاده فائدة وأما ألم الذبح فانه يستر وَقَدْ قيل أنه لا يوجد أصلا لأن الحساس للألم أغشية الدماغ لأن فيه الأعضاء الحساسة ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أَوْ سكتة لم يحس الإنسان بألم فَإِذَا قطعت الأوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إِلَى محل الحس ولهذا قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته.
الشبهة السادسة: قالوا ربما يكون أهل الشرائع قد ظفروا بخواص من حجارة وخشب والجواب أن هَذَا كلام ينبغي أن يستحي من إيراده فإنه لم يبق شيء من العقاقير والأحجار إلا وَقَدْ وضحت خواصها وبأن سترها فلو ظفر واحد منهم بشيء وأظهر خاصيته لوقع الإنكار من العلماء بتلك الخواص وقالوا ليس هَذَا منك إنما هذه خاصية فِي هَذَا ثم إن المعجزات ليست نوعا واحدا بل هي بين صخرة خرجت منها ناقة وعصا انقلبت حية وحجر تفجر عيونا وهذا القرآن
الذي لَهُ منذ نزل دون الستمائة سنة فالأسماع تدركه والأفكار تتدبره والتحدي به عَلَى الدوام ولم يقدر أحد عَلَى مداناة مِنْهُ فأين هَذَا والخاصة والسحر والشعبذة.
قال أَبُو الوفاء عَلِيّ بْن عقيل رَضِيَ اللَّهُ عنه صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء ثم مَعَ ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا بل الجوامع تتدفق زحاما والآذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإقرار بما جاء به وإنفاق الأموال والأنفس فِي الحج مَعَ ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد فجعل بعضهم يندس فِي أهل النقل فيضع المفاسد عَلَى الأسانيد ويضع السير والأخبار وبعضهم يروي مَا يقارب المعجزات من ذكر خواص فِي أحجار وخوارق العادات فِي بعض البلاد وأخبار عَن الغيوب عَنْ كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ فِي تقرير ذلك حتى قالوا أن سطيحا قَالَ فِي الخبيء الذي خبىء لَهُ حبة بر فِي إحليل مهر
والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه وههنا الْيَوْم معزمون يكلمون الجني الذي فِي باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات فمن رأى مثل هَذَا قَالَ بقلة عقلة وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل مَا جاءت به النبوات إلا مقارب هَذَا وليس قول الكاهن حبة بر فِي إحليل مهر وَقَدْ أخفيت كل الاخفاء بأكثر من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وهل بقي لهذا وقع فِي القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب الْيَوْم وهل ترك تلمح هَذَا إلا النبي وَاللَّه مَا قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا فقالوا تعالوا نكثر الجولان فِي البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مَعَ الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه فيصدق بِهَا الكل ويبطل أن يكون مَا جاء به الأنبياء خرقا للعادات ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بإنائه إِلَى دجلة فامتلأ ذهبا فصار هَذَا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين وبطريق العادات فِي حق المنجمين وبطريق الخواص فِي حق الطبايعين وبطريق الكهانة فِي حق المعزمين والعرافين فأي حكم بقي لقول عِيسَى عَلَيْهِ السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وأي خرق بقي للعادات وهذا العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول فَإِذَا نبههم العاقل المتدين عَلَى مَا فِي هَذَا من الفساد قَالَ الصوفي أتنكر كرامات الأولياء وقال أهل الخواص أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد والنعامة تبلع النار فتسكت عَنْ جحد مَا لم يكن لأجل مَا كان فويل للمحق معهم هَذَا والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مَعَ أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى أن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من اللَّه عز وجل عَلَى حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال.
الكلام عَنْ جاحدي النبوات ومن الهند البراهمة قوم قد حسن لهم إبليس أن يتقربوا بإحراق نفوسهم فيحفر للإنسان منهم أخدود وتجتمع الناس فيجيء مضمخا بالخلوق والطيب وتضرب المعازف والطبول والصنوج ويقولون طوبي لهذه النفس التي تعلق إِلَى الْجَنَّة ويقول هو ليكن هَذَا القربان مقبولا ويكون ثواب الْجَنَّة ثم يلقي نفسه فِي الأخدود فيحترق فَإِن هرب نابذوه ونفوه وتبرأوا مِنْهُ حتى يعود
ومنهم من يحمي لَهُ الصخر فلا يزال يلزم صخرة صخرة حتى يثقب جوفه ويخرج معاه فيموت
ومنهم من يقف قريبا من النار إِلَى أن يسيل ودكه فيسقط
ومنهم من يقطع من ساقه وفخذه قطعا ويلقيها إِلَى النار والناس يزكونه ويمدحونه ويسألون مثل مرتبته حتى يموت
ومنهم من يقف فِي أخثاء البقر إِلَى ساقه ويشعل النار فيحترق ومنهم من يعبد الماء ويقول هو حياة كل شيء فيسجد لَهُ
ومنهم من يجهز لَهُ أخدود قريب من الماء فيقع فِي الأخدود حتى إذا التهب قَامَ فانغمس فِي الماء ثم رجع إِلَى الأخدود حتى يموت فَإِن مات وَهُوَ بينهما حزن أهله وقالوا حرم الْجَنَّة وإن مات فِي أحدهما شهدوا لَهُ بالجنة
ومنهم من يزهق نفسه بالجوع والعطش فيسقط أولا عَن المشي ثم عَن الجلوس ثم ينقطع كلامه ثم تبطل حواسه ثم تبطل حركته ثم يخمد
ومنهم من يهيم فِي الأَرْض حتى يموت ومنهم من يغرق نفسه فِي النهر
ومنهم من لا يأتي النساء ولا يواري إِلَى العورة ولهم جبل شاهق تحته شجرة وعندها رجل بيده كتاب يقرأ فيه يَقُول طوبى لمن ارتقى هَذَا الجبل وبعج بطنه وأخرج أمعاءه بيده
ومنهم من يأخذ الصخور فيرض بِهَا جسده حتى يموت والناس يقولون طوبى لك وعندهم نهران فيخرج أقوام من عبادهم يوم عيدهم وهناك رجال فيأخذون مَا عَلَى العباد من الثياب ويبطحونهم فيقطعونهم نصفين ثم يلقون أحد النصفين فِي نهر والنصف الآخر فِي نهر ويزعمون أنهما يجريان إِلَى الْجَنَّة
ومنهم من يخرج إِلَى براح ومعه جماعة يدعون لَهُ ويهنئونه بنيته فَإِذَا أضجر جلس وجمع لَهُ سباع الطير من كل جهة فيتجرد من ثيابه ثم يمتد والناس ينظرون إليه فتبتدره الطير فتأكله فَإِذَا تفرقت الطير جاءت الْجَمَاعَة فأخذوا عظامه وأحرقوها وتبركوا بِهَا فِي أفعال طويلة قد ذكرها أَبُو مُحَمَّد النوبختي يضيع الزمان فِي كتابتها والعجب أن الهند قوم تؤخذ الحكمة عنهم ويؤخذ عنهم دقائق الحكمة وتلهم دقائق الأعمال
فسبحان من أعمى قلوبهم حتى قادهم إبليس هَذَا المقادم قَالَ وفيهم من زعم أن الْجَنَّة ثِنْتَانِ وثلاثون مرتبة وأن مكث أهل الْجَنَّة فِي أدنى مرتبة منها أربع مائة ألف سنة وثلاثة وثلاثون ألف سنة وستمائة وعشرون سنة وكل مرتبة أضعاف مَا دونها وأن النار اثنتان وثلاثون مرتبة منها ست عشر مرتبة فيها الزمهرير وصنوف عذابه. وست عشرة مرتبة فيها الحريق وصنوف عذابه.
والحمد لله رب العالمين
تعليقات
إرسال تعليق