بسم الله الرحمن الرحيم
إن الخطاب الاسلامي موجه للناس كافة بشتى بقاعهم ومختلف أزمانهم وبكل أجناسهم وقومياتهم وألوانهم قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال (وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً) ، وهذا العموم في الخطاب للبشرية اقتضى أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بدعوة الآخرين إلى الدخول في الاسلام قال تعالى(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني). وقد حفلت العصور الاسلامية المعاقبة بنشاط دعوي في أوضاع الحرب والسلام كان له أثره البالغ في تكثير أعداد المسلمين وتوسيع رقعة دار الاسلام. وكان الباعث الرئيسي على الدعوة هو طلب مرضاة الله والحصول على مثوبته ففي الحديث النبوي: "لأن يهد الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعم"
إن موضوع الدعوة هو الاسلام بشموله للعقيدة والشريعة والأخلاق أو بتعبير معاصر لجوانب الحياة المتنوعة فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ولكن المحور الأساسي هو التوحيد الخالص لله تعالى وأنه الرب الخالق والمنعم الرازق وأنه خلق البشر لتحقيق العبودية له (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، ويتم اختبار طاعتهم في الدنيا ويجازون على أعمالهم في اليوم الآخر، حيث يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار قال تعالى(زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثنَّ ثم لتنبؤنَّ بما عملتم وذلك على الله يسير) وقال (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين أمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) وقال ايضا (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
إن الدخول في الاسلام يبدأ بـ "أشهد أن لا إله لا الله وأن محمداً رسول الله" وبها يعلن الانسان اخلاصه في العبودية لله وحده، والتزامه باتباع أحكام الاسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا يدخل الانسان مرحلة الوعي الديني .. الوعي بالهدف النبيل من الوجود، والوعي بضرورة الارتقاء الروحي والمادي، والوعي بوسائل الارتقاء من الإحساس بمعاني الإيمان والتدبر والتفكر والذكر والشكر والعبادات المتنوعة من صلاة وصوم وحج لتوثيق الصلة بالخالق
و الانتصار للحق والعدل والخير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تمثل القيم الاسلامية في واقع حياته ليكون مثال "الإنسان الصالح"، ومن العطاء السخي للآخرين عن طريق "العمل الصالح" الذي يقربه إلى الله تعالى.
إن دائرة العمل الصالح واسعة، وهو يهدف إلى الارتقاء بالحياة الروحية والمادية ومساندة قيم الحق والخير في الأرض .. وهي معاني كبيرة لا يسهل تحقيقها نسبياً، وإن تحققت في جيل فليس ثمة ما يضمن تحققها في جيل لاحق، فالصعود والهبوط يعتقبان في تاريخ البشر، وتجديد الدين وإحياء السنن وتوثيق عرى الإيمان يرتبط بالدعوة الاسلامية، ومدى وعي الدعاة لمضامين الاسلام وشموليته وقدرتهم على إمتثال تعاليمه، وإقناع الآخرين بها.
إن القرآن هو أول كتاب أنزل للناس باللغة العربية حرَّك وعي الإنسان قبل أربعة عشر قرناً، وفتح عقله على مكانه في الكون والحياة، وعرَّف بالحقوق والواجبات التي تعمق وعيه الاجتماعي ونظرته الإنسانية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك كله بأقواله وسيرته الشخصية، ونظراً لإمتثاله لما في القرآن بعمق ووعي خاصين، وتأثيره الكبير في جيله خاصة فإن الرؤية القرآنية تحولت إلى واقع إنساني معاش، تفاعل مع الوحي الإلهي- قرآناً وسنةً- وأثمر ارتقاءً عظيماً في الوعي الإنساني العام عندما انتشر الاسلام في الزمان والمكان ..
هدفت الدعوة الاسلامية إلى تخفيف معاناة الإنسان في الحياة، والتي يمكن أن تتضاءل بازدياد وعيه في ظل الوحي الإلهي، في حين قد يؤدي ازدياد الوعي الى زيادة المعاناة عند غياب الايمان، فقسوة الحياة تشتد عندما تفقد المعنى، والدين هو الذي يعطيها المعنى.
وقصدت الدعوة الاسلامية الى تحرير الإنسان من الأوهام والأساطير والخرافات والشعوذة التي يقوم بها منتفعون يزعمون أنهم وسطاء بين الله والناس. وأحياناً اتخذ الانسان وسطاء من الحجر والشجر والبشر يناجونهم ويسألونهم، فأعلنت الدعوة الاسلامية أن هذه الأفعال محض شرك وأنه لا وساطة بين الله والإنسان، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" مما يفتح بصيرةالمؤمن على عاقبة ظلم الإنسان ويرسي أساساً للعدل السياسي والاجتماعي.
وتحمل الدعوة الاسلامية ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات حسب الشريعة، فلا يجوز التفريط بها أو التخلي عنها، فهي منحة إلهية للبشرية، وقد اقتضى تطبيق تلك التعاليم جهاداً وبذلاً منذ نزول الوحي حتى استقرت دولة الاسلام، فلولا الحركة الجهادية لما قضي على الشرك وطابع الحياة الجاهلية، ولما استقرت معاني العقيدة وقيم الاسلام الاجتماعية ومضامينه الخلقية في نفوس الملايين.
وحرصت الدعوة الاسلامية على بناء مجتمع العدل والقوة قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) مما يوضح الأسس اللازمة لبناء مجتمع قوي متحضر يقوم على العدل والقوة، فالكتاب والميزان لإقامة العدل، والحديد لإيجاد القوة التي تحمي العدل وتكفل استمراره. والعدل الشامل يمتد إلى المسلم والذمي والكافر، والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء والرجال والنساء حيث تتحدد حقوق الجميع وفق موازين العدل دون احتكار أو استغلال أو استئثار أو ظلم قال تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)
وتنطلق الدعوة الاسلامية من مبدأ المساواة بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه ولا اللون أو العرق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الناس بنو آدم وآدم من تراب" ويقتضي ذلك تحقيق تكافؤ الفرص أمام الناس والتزام العدل المطلق بينهم، وهدم النظم الطبقية إذ لا مكان للعنجهية والكبرياء والاستعلاء على الناس "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" وهذا يفسر تجاوب الأمم المختلفة مع الدعوة الاسلامية ودخولها في دين الله أفواجا. وربما من أجل ذلك كله قال الفيلسوف الألماني هيجل: "يعتبر المبدأ الاسلامي- أو روح التنوير في العالم الشرقي- أول مبدأ يقف في وجه البربرية"
وتعتمد الدعوة الاسلامية الشورى أساساً للنظام السياسي والاجتماعي انطلاقاً من الآية (وأمرهم شورى بينهم) والآية (وشاورهم في الأمر) وقد بيَّن عمر رضي الله عنه أن الحكم يخص الأمة وأن من يسلبها هذا الأمر يكون غاصباً
وتوازن الدعوة الاسلامية بين المطالب الروحية والدنيوية، وتنظر إلى عمران الأرض وزينة الحياة وطيباتها نظرة متفائلة، فلا تطالب البشر بالتبتل والحرمان والنأي عن استثمار الطاقات المتنوعة لمصالحهم قال تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)وقال (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك) فالمطلوب أن يكون العمران والاستثمار في نطاق الإحساس دون الظلم والانحراف عن الفطرة وتسخير القوى نحو الشر والدمار والطغيان ...
وهي في دعوتها إلى العمران تربي الأتباع على الاتقان، والاحسان مرتبة عليا فوق الاسلام والإيمان، وفيها تتفجر الطاقات الانسانية، وتنفتح على عالم الغيب بتركيز عال من العبادة والرقابة واليقين وفي الحديث "الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
وقد أثمرت هذه الدعوة حضارة مادية رائعة في العصور الاسلامية الذهبية شملت الفكر والعلوم والزراعة والصناعة.
وكان من مقاصد الدعوة الاسلامية حفظ النوع الإنساني واستمراره في الوجود، بتشريع الزواج وتحصين الأسرة وتحريم اتلاف النفس البشرية بالقتل أو الانتحار قال تعالى(من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) معتبرة تحقيق الأمان الفردي أساساً لتحقيق الأمن الجماعي.
وتفتح الدعوة الاسلامية أبواب التوبة أمام العالمين مهما بلغت معاصيهم دون الحاجة إلى الاعتراف أمام وسيط أو كشف مستور للآخرين قال تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) وبذلك تم التأكيد على قيم إيجابية تحارب اليأس والقنوط والتردي والعبثية والإحساس بمأساوية الحياة، وتمحو الصور القاتمة المظلمة الموحية بالاكتئاب والقلق مثل الطِّيرة (اي التشاؤم) والخوف من المستقبل. سأل صحابي النبي صلى الله عليه وسلم: منَّا رجال يتطيرون؟ فأجابه: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنَّهم" .
وتكثر الصور المتفائلة والمعالم المضيئة والمعاني الايجابية الملطفة للحياة والمجملة للاجتماع البشري بإشاعة السلام والمحبة بين الناس والاهتمام بحسن المنظر والمظهر والنظافة وطيب الرائحة.
وأكدت الدعوة الاسلامية على التكافل والتعاون بين الناس ابتداءً بصلة الأرحام وانتهاءً بالمجمع بالحث على السخاء والكرم والإيثار ومراعاة حقوق الجيران حيث ينخلع الناس عن أموالهم التي يحبونها تحت شعار "الصدقة برهان" يعني أنها دليل قاطع على تذوق حلاوة الإيمان.
وأعلنت الدعوة الاسلامية حماية الملكية الفردية، وحثَّت على دوام تداول الأموال بالاستثمار، ومنعت تبديدها حتى من قبل صاحبها فحجرت عليه إذا كان سفيهاً لا يدرك عواقب إتلاف الثروة، وحرمت الربا والاحتكار منعاً لانحصار المال بأيدٍ قليلة قال تعالى(كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم) .
وكانت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر تحفز روح المغامرة الجهادية والعلمية والتجارية، وتدفع للبذل والتضحية لبناء الأمة وكيانها الحضاري.
وقد اهتمت الدعوة الاسلامية بالعلم فهو فريضة على كل مسلم، ووعدت بالأجر العظيم على طلبه، وقد وردت كلمة العلم في اربعمئة وست وعشرين موضع من القرآن الكريم وأعلت مكانة العلماء حتى اعتبرتهم ورثة الأنبياء . وأرست قيماً ثقافية تضمن استمرار التقدم العلمي. فالعلم حق للجميع وليس حكراً لفئة معينة مما يؤدي للارتفاع بالمستوى الثقافي لجمهور الأمة، والعلم يجب أن يقترن بالعمل والسلوك، وهو دليل توفيق الله للإنسان "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" وفقه الدين يقتضي فهم الحياة والنظر إلى أحداثها وقضاياها وفق مفاهيم الاسلام الذي اتنظم جوانب الحياة المتنوعة، فلا عجب إذا ما تفتحت بصيرة المسلم على جوانب الاجتماع والاقتصاد والحس والذوق وقيم الجمال بصورة أرحب وأعمق وأشمل كلما ازداد بصيرة في دينه.
والعلم تترتب عليه مسؤولية دينية، فالعالم يُّسأل عن موقفه العلمي يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: احداها وعن علمه ماذا عمل فيه" . والعالم مسئول عن نشر العلم وعدم كتمانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" .
والعلم بحر لا ساحل له، ولا يمكن للفرد الإحاطة به، لذلك لابد من الاستمرار في طلبه دون انقطاع، وقد أثمرت هذه القيم الثقافية حركة فكرية زاهرة حيث صار "التعلم المستمر" و "تراكم المعرفة" و "تجميع العلم" ودراسته بصورة منظمة من أبرز خصائص الحركة الفكرية في عصور الاسلام الذهبية.
وكانت الدعوة الاسلامية ترتكز على مفهوم أن العقل وحرية الفكر مناط التكليف وطالبت أتباعها بالبحث الحر عن الدليل أو البرهان، وأنكرت تقليد الآخرين، فلم يظهر في الاسلام كهنوت يدَّعي احتكار فهم الاسلام وحق تفسير نصوصه كما حدث في تأريخ الأديان الأخرى، بل بوسع كل مسلم أن يرجع إلى القرآن والسنة وأن يتضلع في علومهما ويأخذ بعد ذلك عنهما، ويناقش الآخرين في صحة الدليل وطريقة الاستدلال.
والخلاصة ان التأمل في المنطلقات الفكرية للدعوة الاسلامية يكشف عن مبادئ أساسية تتمثل في تحقيق العبودية لله والكرامة والحرية والعلم والعدل والمساواة والشورى للإنسان الذي يتجه إليه الخطاب الاسلامي في مطلق الزمان والمكان.
والحمد لله رب العالمين
جزاك الله خيرا
ردحذفوإياكم
حذفوإياكم
ردحذف