بسم الله الرحمن الرحيم
اعتمد أبو بكر رضي الله عنه على أهل المدينة ومكة والطائف وما حولها من قبائل في تجهيز الجيوش للقضاء على المرتدين فضلاً عن مساندة من بقي على الاسلام في مراكز الردة.
ولا توجد إشارة إلى أن أحدا من أهل المدينة فكر بالردة، وكذلك ثبت أهل مكة، ووقف سهيل بن عمرو موقفاً مشرفاً كان له أثره في تثبيت الناس على الاسلام حيث خاطبهم بقوله: "إن ذلك لم يزد الاسلام إلا قوة فمن رابنا ضربنا عنقه".
كذلك ثبت أهل الطائف على الاسلام، وربما همَّ بعضهم بالردة، فخطب فيهم عثمان بن أبي العاص- عامل الطائف- فقال: "يا أبناء ثقيف كنتم آخر من أسلم فلا تكونوا أول من ارتد".
ولعل الصلات الوثيقة بين مكة والطائف جعلت ثقيفاً تخلد إلى الهدوء كما فعلت مكة.
إن سكان المدن الثلاثة نالوا حظاً من التربية الاسلامية والتوجيهات النبوية أكثر من سواهم، وتعرفوا على تعاليم الاسلام عن كثب، وتفقهوا فيه، لذلك كان سكان محور (المدينة- مكة- الطائف) هم القائمون على أمر الاسلام وحرب المرتدين، وساعدهم في ذلك من ثبت على دينه من المسلمين في مناطق الردة نفسها.
وكان أول صدام مع المرتدين في خلافة الصديق رضي الله عنه مع قبائل فزارة وأسد التي استغلت غياب حملة أسامة عن المدينة، وحاولت غزو المدينة، وقد نظم أبو بكر رضي الله عنه حراسة المدينة، وألزم المسلمين بحضور الصلاة في المسجد النبوي استعداداً للطواريء، ثم خرج بالمسلمين إلى ذي القصة (على بريد من المدينة من ناحية نجد) حيث صدَّ أول هجوم قامت به عبس وذبيان على المدينة بعد أكثر من شهر من خروج أسامة من المدينة.
وبعد أيام قدم أسامة فاستخلفه أبو بكر رضي الله عنه على المدينة وخرج لملاقاة عبس وذبيان بالربذة فهزمهم، ولما استراح جند أسامة عقد أبو بكر رضي الله عنه أحد عشر لواءً لقتال المرتدين وأمَّر عليها الأمراء وهم:
١ - خالد بن الوليد، ووجهه إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد ثم إلى مالك بن نويرة في تميم.
٢ - عكرمة بن أبي جهل، إلى مسيلمة بن حبيب الكذاب في اليمامة، ففشل في مهمته، فأمره بالتوجه إلى عمان.
٣ - المهاجر بن أبي أمية، على اليمن للقضاء على قيس بن عبد يغوث (المكشوح) ثم إلى حضرموت للقضاء على ردة كندة بقيادة الأشعث بن قيس.
٤ - خالد بن سعيد بن العاص، إلى مشارف الشام.
٥ - عمرو بن العاص، إلى قضاعة.
٦ - حذيفة بن اليمان ، إلى دُّبا.
٧ - عرفجة بن هرثمة، إلى مهرة.
٨ - شرحبيل بن حسنة، لمساعدة عكرمة.
٩ - طريفة بن حاجز، الى بني سُليم.
١٠ - سويد بن مقرن، إلى تهامة اليمن.
١١ - العلاء بن الحضرمي، إلى البحرين.
وأرسل أبو بكر رضي الله عنه الرسائل إلى سائر المرتدين، فسبقت الرسل الجيوش وتضمنت الرسائل تذكيراً ونصحاً وترهيباً وأن الأمان لمن أجاب ورجع إلى دينه.
القضاء على ردة طليحة الأسدي:
اجتمعت عبس وذبيان بعد هزيمتها في ذي القصة إلى طليحة بالبزاخة والتحق به رجال من طيء، فلما وجه الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد للقضاء على طليحة قام عدي بن حاتم الطائي بمحاولة ناجحة فأقنع طيء بالعودة الى الاسلام والانضمام إلى خالد مما أضعف طليحة، وكان عيينة بن حصن الفزاري يقود جيش طليحة ومعه (٧٠٠) من فزارة، فلما التقى خالد بن الوليد بجيش أسد وفزارة وحمي القتال أيقن عيينة بكذب طليحة فانسحب مع فزارة من المعركة ... وفرَّ طليحة الى الشام حيث عاد فأسلم وحسن إسلامه.
القضاء على مالك بن نويرة:
بعد قضاء خالد بن الوليد على ردة بني أسد اتجه إلى ديار تميم، ولما علم مالك بن نويرة بقدوم المسلمين طلب من قومه التفرق إلى دورهم إذ لا قبل لهم- وكانوا في تنازع وانقسام- فدخل المسلمون ديار تميم وأسروا مالك بن نويرة فجادله خالد بن الوليد، ولما تبين له أنه مرتد عن دفع الزكاة أمر بقتله فقتل، وقد تزوج خالد من ليلى زوجة مالك بعد انقضاء عدتها.
وقد لفقت روايات في كتب التأريخ والأدب تشير الى إن خالداً قتل مالكاً وهو على الاسلام أو أن قتل مالك كان عن سوء فهم لقول خالد: "أدفئوا أسراكم" وهي في لغة القوم تعني القتل فقتلوا ولم يقصد خالد ذلك. و كره أبو بكر رضي الله عنه زواج خالد من ليلى وكانت العرب تكره الزواج في الحروب .
القضاء على ردة مسيلمة الكذاب:
بعد قضاء خالد على ردة بني تميم اتجه إلى اليمامة للقضاء على ردة بني حنيفة وكان عكرمة بن أبي جهل قد اندحر أمام بني حنيفة فأمره أبو بكر رضي الله عنه أن يتجه إلى عمان، وكذلك فشل شرحبيل بن حسنة في حربهم ثم انضم الى خالد، وجمع مسيلمة أربعين ألفاً من قومه وتقدم بهم لمواجهة خالد بن الوليد، فكانت موقعة عقرباء العنيفة، التي أبدى فيها المهاجرون والأنصار بسالة منقطعة النظير، وأبدى بنو حنيفة مقاومة وجرأة شهد بها خالد بن الوليد، وكان جيش المسلمين حوالي احدى عشر الف مقاتل، فيهم ألفان وخمسمائة من المهاجرين والأنصار وبقيتهم من أهل البوادي ممن ثبتوا على إسلامهم.
وفي بداية اللقاء تراجع المسلمون أمام قوة أعدائهم وكثرتهم حتى وصلوا رحالهم فصرخ شجعانهم وقادتهم بهم، وطلب الأنصار من خالد بن الوليد أن يمتاز الناس فتقاتل كل قبيلة على حدة، فأجابهم الى ذلك فقاتل المهاجرون في جبهة وقاتل
الأنصار في جبهة وقاتلت كل قبيلة في جبهة ليتبين القوي من الضعيف ويعرف من أين يؤتى المسلمون. فتنافس الجميع في القتال وتمكنوا أن يصدوا بني حنيفة الى حديقة الموت ثم اقتحموها عليهم وقتلوا مسيلمة والرجَّال بن عنفوة ومحكم اليمامة وهم زعماء بني حنيفة. وقد أسفرت المعركة عن استشهاد عدد كبير من المسلمين قدرتهم الروايات مابين اربعمئة وخمسين إلى الف وسبعمائة شهيد وثمة روايات ذكرت أنهم الف ومئتان شهيد فيهم ثلاثون أو خمسون من حملة القرآن مما اعتبر حافزاً لجمع القرآن في خلافة أبي بكر.
أما قتلى بني حنيفة فقد بلغت بهم بعض الروايات عشرة الاف قتيل ، بينما أوصلتهم روايات أخرى إلى احى وعشرين الف قتيل ومازالت آثار قبور الشهداء من الصحابة ظاهرة على مقربة من بلدة الجبيلة القريبة من حديقة الموت
وقد انتهت المعركة بالصلح بعد أن كادت بنو حنيفة أن تفنى وبعد أن أنهكت الحرب قوات المسلمين وأتت على صفوة من خيارهم وأثخنت بالجراح بقيتهم، وعقد خالد الصلح مع مجاعة بن مرارة الحنفي- وكان قد أسره قبل المعركة- على أن يعود بنو حنيفة إلى الاسلام ويسلمو حصونهم ونصف أموالهم وسلاحهم ونصف السبي (أو ربعه) وبعض مزارعهم .
وقد استعرض أحد الباحثين المعاصرين آراء بعض المستشرقين وتقويمهم لحركة مسيلمة فقال: "وقد يتفق الباحث مع كثير من آراء الباحثين السابقين عن طبيعة حركة مسيلمة، من حيث كونها حركة لبست مسوح الدين وادعت النبوة لتحقيق أغراضها في الاستقلال، في ظل فراغ سياسي كان يخيم على الجزيرة العربية وتعزيز المكانة القبلية لبني حنيفة ومنافستهم لقريش، وعدم قبولهم الخضوع والتبعية للمدينة، وتطلعاتهم إلى إقامة كيان قوي مماثل لكيان المدينة، يحافظ على مصالحهم السياسية والزراعية والتجارية، لكن حركة مسيلمة تظل مع ذلك حركة مصطنعة ضحلة الفكر والعقيدة، وبخاصة إذا ما قورنت بالإسلام وسمو مبادئه وشمول عقيدته وشريعته، التي تخطت كثيراً القبلية والاقليمية والقومية، وجاوزتها إلى الانسانية العالمية وبذلك هزمت تلك الحركة وأمثالها بالفكر والعقيدة، قبل أن تهزم في ميادين الجهاد والاستشهاد، فكانت أقرب ما تكون بذلك إلى حركة رد فعل متسرع ومفتعل ضد حركة اسلامية صادقة وأصيلة".
القضاء على ردة البحرين:
كان بنو بكر وبنو عبد القيس من قبائل ربيعة يقيمون بالبحرين، وكان ملكهم المنذر بن ساوى أسلم على يد العلاء بن الحضرمي في سنة تسعة هجرية ومات المنذر في الشهر الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم فارتد أهل البحرين عن الاسلام إلا بنو عبد القيس تمكن سيدهم الجارود من إقناعهم بالثبات على الاسلام، وتزعم الردة الحطم بن ضبيعة وحاصر الجارود في جواثى وبينما هم محاصرون قدم العلاء بن الحضرمي إلى البحرين على رأس جيش واتصل بالجارود، ومكث يقاتل الحطم شهراً دون التحام فاصل، وعرف المسلمون أن المرتدين سكروا في إحدى الليالي فهاجموهم وقضوا عليهم وقتل الحطم وفرَّ بعض المرتدين إلى جزيرة دارين المواجهة للبحرين على الشراع، فاقتحم المسلمون الماء بخيولهم إلى الجزيرة وقتلوا بقية المرتدين وغنموا غنائم عظيمة وعادوا إلى البحرين.
القضاء على ردة عمان ومهرة:
كانت عمان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم خاضعة لفارس، ثم أسلم جيفر أميرها وأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يعلمهم الدين، فاتفقا على قسمة أموال الزكاة بين فقراء البلاد، فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد أهل عمان بقيادة ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي، وادعى النبوة، ففرَّ جيفر إلى الجبال.
وقد أشارت رواية إلى تذمر أهل عمان من الزكاة، فقد قال قرة بن هبيرة لعمرو بن العاص: "يا هذا إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالأتاوة، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم"
وأرسل أبو بكر رضي الله عنه عرفجة بن هرثمة البارقي إلى مهرة، وحذيفة بن محصن الغلفاني إلى عمان، ثم أتبعهما عكرمة بعد هزيمة بني حنيفة له، وجعل القيادة لعكرمة على عرفجة وحذيفة وقد تمكن عكرمة من القضاء على لقيط الأزدي وإعادة عمان إلى حظيرة الاسلام بالتعاون مع جيفر ومع بني عبد القيس التي أمدته من البحرين. ثم اتجه عكرمة إلى مهرة حيث ارتد أهلها أيضاً، فلما وصلهم وجدهم منقسمين فانضم اليه بعضهم وقاتل بعضهم الآخر فغلبهم، وسار نحو حضرموت واليمن للتعاون مع المهاجر بن أبي أمية في القضاء على الردة هناك
القضاء على ردة اليمن:
ما إن علم أهل اليمن بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتد قيس بن عبد يغوث عن الاسلام، وقتل داذويه، وكاتب أتباع الأسود، واستعان بهم، وسيطر على صنعاء وطرد الأبناء منها، كذلك ارتد عمرو بن معد يكرب في نجران. وعيَّن أبو بكر رضي الله عنه فيروز والياً على اليمن، فاستعان بأخواله خولان، وساعدته قبائل عك وعقيل، فتمكن من طرد قيس من صنعاء. واتحد قيس مع عمرو بن معد يكرب واستمرت الاضطرابات حتى قدم عكرمة بن أبي جهل من عمان والمهاجر بن أبي أمية من المدينة، وقاما بتطهير اليمن من المرتدين، وتمكنا من توثيق عمرو بن معد يكرب وقيس بن عبد يغوث وإرسالهما إلى أبي بكر رضي الله عنه حيث استتابهما وعفا عنهما.
وهكذا انتهت أحداث الردة الثانية باليمن ، وقد تمثلت فيها الصراعات القبلية، والطموحات الشخصية،
القضاء على ردة حضرموت:
منع بنو عمرو بن معاوية بقيادة الملوك الأربعة الزكاة واعتصموا بمحاجرهم وخرج من بقي على الاسلام منهم إلى عامل المسلمين زياد بن لبيد البياضي الذي واجه المرتدين وتمكن من قتل الملوك الأربعة، وأمده أبو بكر رضي الله عنه بالمهاجر بن أبي أمية وعكرمة بن أبي جهل لمواجهة كندة بزعامة الأشعث بن قيس، وقد تمكن المسلمون بعد معارك طويلة من هزيمة كندة وإرسال الأشعث إلى المدينة حيث رجع إلى الاسلام .
وقد نتج عن حركة الردة والقضاء عليها إعادة وحدة الدولة الاسلامية، وتجريد البدو من سلاحهم وخيلهم خلال خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ولا شك أنها أكسبت المسلمين المزيد من الخبرات القتالية والمعرفة بجغرافية ش في حركة الفتح الاسلامي.
والحمد لله رب العالمين
تعليقات
إرسال تعليق