بسم الله الرحمن الرحيم
١. اليمن:
كانت اليمن تابعة اسميا للإمبراطورية الساسانية، وكان قد أصبح للساسانيين نفوذ في اليمن منذ أن استعان بهم سيف بن ذي يزن لطرد الأحباش، فلما توفي سيف أصبح قائد الحامية الفارسية أميرا على اليمن، وتزوج الفرس من أهل اليمن وسمي أولادهم بالأبناء.
ولكن نفوذ الحاكم الفارسي كان محصوراً بصنعاء وما حولها.
في حين يتقسم بقية البلاد الاذواء والأمراء المحليون ورؤساء العشائر وهم في نزاع مستمر وخاصة القبائل الكبيرة أزد شنوءة (بنو الحارث والنخع وبجيلة وخثعم وعك والأشاعرة) وتسكن عند الساحل، ومذحج وهمدان وتسكن الهضبة في الداخل.
وكان خروج الأسود العنسي قبل حجة الوداع في العام العاشر وكانت أول ردة في الاسلام، ودامت أربعة أشهر.
وقد فصل سيف بن عمر أخبارها معتمدا على شهود عيان مثل فيروز الديلمي وجشيش الديلمي.
وينتسب الأسود إلى عنس من مذحج التي تعد أكبر القبائل اليمانية، وكان من كهف خبان قرب نجران وعرف بذي الخمار وبرحمن اليمن، وكان كاهناً، وادعى النبوة، وأيدته بعض قبائل مذحج، واحتل نجران ثم صنعاء حيث قتل واليها شهر بن باذام، وتظاهر زعماء الأبناء بالانضمام إليه.
وقد اضطر معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري وأتباعهما إلى الانسحاب إلى حضرموت، كما أخرج أهل نجران عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص حيث عادا إلى المدينة. وأخرج قيس بن المكشوح أحد قادة قبيلة مراد عامل المسلمين فروة بن مسيك، وانضم قيس بن المكشوح إلى الأسود العنسي، كما انضم إليه عمرو بن معد يكرب الزبيدي أحد زعماء مذحج.
وانسحب من بقي على الاسلام من أهل اليمن مع الولاة المسلمين.
وتكمن قوة الأسود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر، والخطابة البليغة "كان الأسود كاهناً، وكان يريهم ما يثير العجب، ويسرق قلوب من سمع كلامه كما استخدم الأموال للتأثير على الناس.
وهذه الصفات تجعله مشهورا في قومه، ويبدو أن انتشار الاسلام كان يضعف مركزه لأن الاسلام يحرم الكهانة، ويمنع الناس من استشارة الكهان.
وقد أثار الأسود موضوع أخذ الزكاة من اليمن، فكتب إلى العمال المسلمين في مناطق اليمن"أيها المستوردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه" .
وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين المجتمعين في نجران وحضرموت أن يقاوموا الأسود، وقد أفاد معاذ بن جبل من الانشقاق في حركة الأسود حيث أن الأبناء لم يكونوا مخلصين له وكذلك قيس بن المكشوح فتمكنوا من قتله في قصره، وإعلان العودة إلى الاسلام .
ردة اليمامة:
تقع اليمامة في شرقي الجزيرة العربية، وهي واد خصب تتوفر فيه المياه الغزيرة، وتزرع فيه الحنطة والشعير والذرة والنخيل وتقوم فيه القرى حيث يستقر فيها بعض السكان الذين ينتمي معظمهم إلى بني حنيفة وبعضهم ينتمي إلى بني بكر أو إلى بني تميم وخاصة شمال اليمامة، وقد قامت فيها صناعة السيوف والنصال.
وكان في قطر مركز مطرنة للمبشرين النصارى النساطرة الذين أقصاهم البيزنطيون فاحتموا بالساسانيين ومن فارس مدوا دعايتهم إلى اليمامة.
وقد دخلت بنو حنيفة في الاسلام وقدم وفدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في العام التاسع للهجرة ومنهم مسيلمة بن حبيب وقد أعلن مسيلمة نبوته في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعله فعل ذلك بعد عودته من الوفد، وكان قد تعاظم نفوذه بعد وفاة هوذة بن علي زعيم اليمامة عقب فتح مكة.
وادعى أنه يوحى إليه واتخذ له محرابا ومؤذنا اسمه حجير وجعل الصلاة ثلاثة أوقات في اليوم في الصبح والظهر والعشاء وحدد النسل بابن واحد، ويروي الجاحظ أن مسيلمة كان قبل ادعاء النبوة يدور في أسواق العرب يتعلم الحيل والنيرنجات واختيارات النجوم والمتنبئين، حتى أحكم حيل السدنة والحواة وأصحاب الزجر والحظ ومذهب الكاهن العياف والساحر وصاحب الجن الذي يزعم أن معه تابعه.
وقد نقلت المصادر عن مسيلمة ما ادعاه من آيات عارض بها القرآن، وأسلوبها ينم عن ركاكة، ولعلها من وضع الأخباريين لذلك من الصعب اعتمادها لمعرفة مبادئه العقدية.
وقد التف حوله أكثر بني حنيفة فمنهم من تبعه جهلا وتصديقا وهم العوام ومنهم من تبعه عصبية وهم الخاصة (ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر).
وتعاظم أمره بعد قدوم الرجال بن عنفوه من المدينة إلى اليمامة، وكان الرجَّال قد تعلم القرآن وتفقه بالدين، فلما رأى بني حنيفة يتابعون مسيلمة انسلخ من الاسلام وأظهر تصديقه لمسيلمة، فكانت فتنته للناس أعظم من فتنة مسيلمة.
وراسل مسيلمة النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر العام العاشر بعد حجة الوداع قائلا: "إني قد أشركت في الأمر معك وان لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض"
ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم زاد نفوذ مسيلمة وتحالف مع سجاح التميمية، وقيل أنه تزوجها، لكن هذا التحالف لم يدم طويلاً حيث انسحبت سجاح بقواتها من اليمامة بعد أخذ نصف خراجها.
وقد أدرك أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطر ردة بني حنيفة لقوتهم وكثرتهم ورخائهم واجتماعهم على مسيلمة.
ردة طليحة الأسدي:
كانت قبيلة غطفان التي تسكن شرقي خيبر تسيطر على شمال الحجاز بتحالفها مع قبيلة طيء ويهود خيبر فلما سقطت خيبر سنة (٧) هـ بيد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه الحملات إلى الشمال، ضعف نفوذ غطفان، وحاول طلحة بن خويلد الأسدي أن يسيطر على شمال شبه الجزيرة عن طريق المحالفات بين قبيلة أسد وطيء وفزارة (وهي أهم فروع غطفان)، ثم ادعى النبوة في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وان ملكا يدعى ذو النون يأتيه بالوحي، وروت التاريخ بعض الآيات ذات الأسلوب الركيك التي كان يقرأها. وقد سعى إلى مفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان انشغال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سببا في تعاظم نفوذه، فلما كانت خلافة الصديق رضي الله عنه اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة، وأرسلت وفدا إلى المدينة بطلب من الصديق أن يعفيهم من الزكاة، لكنه رفض وقال: "لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه" لأن ليس بوسعه إعفاؤهم من أحد أركان الاسلام.
وقد اطلع الوفد على ضعف القوة العسكرية في المدينة عقب خروج حملة أسامة، لذلك تجرأت هذه القبائل على غزو المدينة.
انتشار الردة:
أدت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تهديد وحدة الدولة الاسلامية الناشئة، حيث توسعت حركة الردة في أنحاء الدولة ماعدا الحجاز، وكان أخطرها حركة مسيلمة الحنفي، لكن بعدها عن المدينة وقرب حركات الردة الأخرى التي ابتدأت بوصول خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى البوادي، فارتد جموع غفيرة من بني أسد وغطفان وتميم والبحرين وعمان وحضرموت كما تجددت الردة في اليمن
وكانت وقفة الصديق رضي الله عنه أمام حركات الردة تتسم بالحزم وعدم التفريط بمصلحة العقيدة والدولة، فلم يتأخر في حشد الجيوش ولم يقبل المساومة في أحكام الاسلام ومحاولات بعض القبائل التخلص من دفع الزكاة. وكان عمر رضي الله عنه يحاول أن يقنعه بالترفق في معاملة مانعي الزكاة ليفرغ لأصحاب الردة الشاملة ممن عادوا إلى عبادة الأوثان أو اتبعوا أدعياء النبوة فرفض أبو بكر رضي الله عنه وجهة نظره بشدة، وأوضح للصحابة رضوان الله عليهم: "والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً- أي معزةً- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
وكان أن انشرحت صدور الصحابة رضوان الله عليهم للقتال، وعرفوا أنه الحق.
وهذا الوضوح في فهم ارتباط الأحكام الشرعية ببعضها، ورفض تعطيل أي حكم منها كان مهماً لقتال مانعي الزكاة بصورة خاصة حيث تنقدح شبهة بقائهم على الاسلام وبالتالي حصانة دمهم بالشهادة، وهذا ما عالجه الصديق رضي الله عنه بالبيان والحجة. ولو خضع لمساومات الأعراب فربما كانوا سيطالبونه بإسقاط أحكام والتزامات شرعية أخرى .. ولو أجابهم لأحسوا بضعفه وزاد طمعهم فيه ..
وقد وصفت عائشة رضي الله عنها وضع الدولة وبناتها من الصحابة:"كأنهم معزى في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة" وهو تصوير دقيق لحالة الخطر القصوى لإحاطة الأعداء بهم من كل جانب، ووصفت أبا بكر رضي الله عنه وهو ممسك بزمام القيادة .. واضح الرؤية قوي العزيمة شديد المضاء صائب الرأي "فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وسنانها".
ويتبين من خلال دراسة حركات الردة أنها كانت مختلفة في تصوراتها العقدية فمنها ما كان استمرارا للحركات التي ظهرت في العام العاشر من العصر النبوي مثل ردة بني حنيفة - أحد فروع بكر بن وائل- في اليمامة بزعامة المتنبيء مسيلمة، ومنها ما كان مرتبطاً بأدعياء نبوة جدد كما هو شأن ردة بني أسد وفزارة المرتبطين بالمتنبيء طليحة بن خويلد الأسدي. وردة بني يربوع من تميم بزعامة المتنبئة سجاح في حين التف آخرون منهم حول مالك بن نويرة، وكان قد امتنع عن دفع الزكاة لأبي بكر. وتحالف بنو عطارد التميميون مع مسيلمة باليمامة ..
وانقسمت على نفسها قبيلة سُليم العدنانية في عالية نجد قرب خيبر، فمنهم من حافظ على إسلامه ومنهم من ارتد، ويبدو أن قرب ديارها من المدينة ومشاركة الكثير من رجالها في فتوح مكة وحنين والطائف أدى إلى ثبات فروع منها أمام المرتدين الآخرين من رجالها.
وتحالفت فزارة- من فروع غطفان العدنانية- بنجد بزعامة عيينة بن حصن الفزاري مع طليحة الأسدي.
وارتدت فروع أخرى من بني بكر بن وائل بالبحرين بزعامة الحطم بن ضبيعة وثبتت قبيلة عبد القيس على الاسلام بزعامة الجارود بن المعلى العبدي، لكن الغلبة في البحرين كانت للمرتدين قبل وصول القوات الاسلامية من المدينة.
وانقسمت الأزد في عمان ودُّبا بين زعماء القبيلة، فمنهم من بقي على الاسلام بقيادة جيفر وعباد ابني الجلندي، ومنهم من اتبع المتنبيء ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي الذي غلب على عمان وطرد جيفر وعباد إلى الجبال والساحل.
وأما قبائل حضرموت وهم قبائل كندة والسكاسك والسكون فقد حافظ بعضها على ولائه للاسلام وبايع الوالي زياد بن لبيد البياضي، في حين التف البعض الآخر منهم حول الأشعث بن قيس الكندي الذي امتنع عن دفع الزكاة. ولم تستقر الاضطرابات في حضرموت إلا بعد قدوم الجيوش الاسلامية إليها.
ورغم أن حركة الأسود العنسي تم القضاء عليها في عصر النبوة إلا أن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أدت إلى انقسام خطير بين قبائلها .. فمنهم من التف حول الوالي فيروز- من الأبناء- ومنهم من خرج على سلطة الوالي مثل قيس بن عبد يغوث (المكشوح) الطامح إلى الزعامة الذي استعان بفلول حركة الأسود العنسي.
وهكذا توسعت حركات الردة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه في شمال الجزيرة وشرقها وجنوبها حتى كادت أن تقضي على الدولة الاسلامية الفتية.
والحمد لله رب العالمين
جزاك الله خيرا
ردحذفبارك الله بكم
حذفجزاك الله خيرا
ردحذف