بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء
كان الفقهاء فِي قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص حتى قَالَ المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد عَلَى الكتب المشهورة فِي الحديث كسنن أبي داود ونحوها ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا وربما اعتمد عَلَى قياس يعارضه حديث صَحِيح ولا يعلم لقلة التفاته إِلَى معرفة النقل وإنما الفقه استخراج من الْكِتَاب والسنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه
ومن القبيح تعليق حكم عَلَى حديث لا يدري أصحيح هو أم لا
ولقد كانت معرفة هَذَا تصعب ويحتاج الإنسان إِلَى السفر الطويل والتعب الكثير حتى تعرف ذلك فصنفت الكتب وتقررت السنن وعرف الصحيح من السقيم
ولكن غلب عَلَى المتأخرين الكسل بالمرة عَنْ أن يطالعوا علم الحديث حتى إني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يَقُول فِي تصنيفه عَنْ ألفاظ فِي الصحاح لا يجوز أن يكون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا ورأيته يحتج فِي مسألة فيقول دليلنا مَا روى بعضهم أن رَسُول اللَّهِ قَالَ كذا ويجعل الجواب عَنْ حديث صَحِيح قد احتج به خصمه أن يَقُول هَذَا الحديث لا يعرف وهذا كله جناية عَلَى الإسلام.
{ومن تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء}أن جل اعتمادهم عَلَى تحصيل علم الجدل
أن جل اعتمادهم عَلَى تحصيل علم الجدل يطلبون بزعمهم تصحيح الدليل عَلَى الحكم والاستنباط لدقائق الشرع وعلل المذاهب ولو صحت هذه الدعوى منهم لتشاغلوا بجميع المسائل وإنما يتشاغلون بالمسائل الكبار ليتسع فيها الكلام فيتقدم المناظر بذلك عند الناس فِي خصام النظر فهم أحدهم بترتيب المجادلة والتفتيش عَلَى المناقضات طلبا للمفاخرات والمباهاة وربما لم يعرف الحكم فِي مسألة صغيرة تعم بِهَا البلوى.
{ذكر تلبيسه عليهم بإدخالهم فِي الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم عَلَى تلك الأوضاع}
ومن ذلك إيثارهم للقياس عَلَى الحديث المستدل به فِي المسألة ليتسع لهم المجال فِي النظر وان استدل أحد منهم بالحديث هجن ومن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير وهي محتاجة إِلَى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب ومن لم يطلع عَلَى أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب لَهُ لم يمكنهم سلوك طريقهم وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فَإِذَا ترك مَعَ أهل هَذَا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم
فَإِذَا نظر فِي سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم
وَقَدْ كان بعض السلف يَقُول حديث يرق لَهُ قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شُرَيْح وأنما قَالَ هَذَا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب ومن ذلك أنهم اقتصروا عَلَى المناظرة وأعرضوا عَنْ حفظ المذهب وباقي علوم الشرع فترى الفقيه المفتي يسأل عَنْ آية أَوْ حديث فلا يدري وهذا عين فأين الأنفة من التقصير ومن ذلك أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وَقَدْ كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق وَقَدْ كانوا ينتقلون من دليل إِلَى دليل وإذا خفي عَلَى أحدهم شيء نبهه الآخر لأن المقصود كان إظهار الحق فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه عَلَى أصل بعلة يظنها فَقِيلَ لَهُ مَا الدليل عَلَى أن الحكم فِي الأصل معلل بهذه العلة فَقَالَ هَذَا الذي يظهر لي فان ظهر لكم مَا هو أولى من ذلك فاذكروه فان المعترض لا يلزمني ذكر ذلك وَقَدْ صدق فِي أنه لا يلزمه ولكن فيما ابتدع من الجدل بل فِي باب النصح وإظهار الحق يلزمه ومن ذلك أن أحدهم يتبين لَهُ الصواب مَعَ خصمه
ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحق مَعَ خصمه وربما اجتهد فِي رده مَعَ علمه أنه الحق وهذا من أقبح القبيح لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق
وَقَدْ قَالَ الشافعي رحمه اللَّه مَا ناظرت أحدا فأنكر الحجة إلا سقط من عيني ولا قبلها إلا هبته
فان ذكر لهم محدث قالوا ذاك لا يفهم شيئا وينسون أن الحديث هو الأصل فان ذكر لهم كلام يلين به القلب قالوا هَذَا كلام الوعاظ ومن ذلك إقدامهم عَلَى الفتوى وما بلغوا مرتبتها وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص ولو توقفوا فِي المشكلات كان أولى.
فقد أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ السمرقندي... عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى قَالَ أدركت مائة وعشرين من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أحدهم عَن المسألة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وهذا إِلَى هَذَا حتى ترجع إلى الأول
وَقَدْ روينا عَنْ إِبْرَاهِيم النخعي أن رجلا سأله عَنْ مسألة فَقَالَ مَا وجدت من تسأله غيري
وعن مالك بْن أنس رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ مَا أفتيت حتى سألت سبعين شيخا هل ترون لي أن أفتي فقالوا نعم فَقِيلَ لَهُ فلو نهوك قَالَ لو نهوني انتهيت.
وقال رجل لأحمد بْن حنبل إني حلفت ولا أدري كيف حلفت قَالَ ليتك إذ دريت كيف حلفت دريت أنا كيف أفتيك
وإنما كانت هذه سجية السلف لخشيتهم اللَّه عز وجل وخوفهم مِنْهُ ومن نظر فِي سيرتهم تأدب.
ومن تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم
ومن تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مَعَ القدرة عَلَى ذلك وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه
الأَوَّل الأمير يَقُول لولا أني عَلَى صواب لأنكر عَلَى الفقيه وَكَيْفَ لا أكون مصيبا وَهُوَ يأكل من مالي
والثاني العامي أنه يَقُول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فان فلانا الفقيه لا يبرح عنده
والثالث الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك.
وقد لبس إبليس عَلَى قوم من العلماء ينقطعون عَلَى السلطان إقبالا عَلَى التعبد والدين فيزين لهم غيبة من يدخل عَلَى السلطان من العلماء فيجمع لهم آفتين غيبة الناس ومدح النفس وفي الجملة فالدخول عَلَى السلاطين خطر عظيم لأن النية قد تحسن فِي أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عَنْ مداهنتهم وترك الإنكار عليهم
وقد كان سفيان الثوري رَضِيَ اللَّهُ عنه يَقُول مَا أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم
وَقَدْ كان علماء السلف يبعدون عَن الأمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الأمراء لحاجتهم اليهم فِي الفتاوي والولايات فنشأ أقوام قويت رغبتهم فِي الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح.
تعليقات
إرسال تعليق